فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن مردويه من طريقه عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال بعث الله تعالى نبينا من حمير يقال له شعيب فوثب إليه عبد فضربه بعصا فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء وفيهم أنزل الله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا} الخ؛ وفي البحر أن هؤلاء كانوا بحضور وأن الله تعالى بعث إليهم نبينا فقتلوه فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشًا فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فخرج إليهم بنفسه فهزمهم وقتلهم، وعن بعضهم أنه كان اسم هذا النبي موسى بن ميشا، وعن ابن وهب أن الآية في قريتين باليمن إحداهما حضور والأخرى قلابة بطر أهلهما فاهلكهم الله تعالى على يد بختنصر، ولا يخفى أنه مما يأباه ظاهر الآية والقول بأنها من قبيل قولك كم أخذت من دارهم زيد على أن الجار متعلق بأخذت والتمييز محذوف أي كم درهم أخذت من دراهم زيد، ويقال هنا إنها بتقديركم ساكن قصمنا من ساكني قرية أو نحو ذلك مما لا ينبغي أن يلتفت إليه إلا بالرد عليه، فلعل ما في الروايات محمول على سبيل التمثيل، ومثل ذلك غير قليل، وفي قوله سبحانه: {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا} أي بعد اهلاك أهلها لا بعد تلك الفعلة كما توهم {قَوما ءاخَرِينَ} أي ليسوا منهم في شيء تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر في تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادي اهلاك أولئك {فَلَمَا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا} فضمير الجمع للأهل.
لا لقوم آخرين إذ لا ذنب لهم يقتضي ما تضمنه هذا الكلام، والإحساس الإدراك بالحاسة أي فلما أدركوا بحاستهم عذابنا الشديد، ولعل ذلك العذاب كان مما يدرك بإحدى الحواس الظاهرة، وجوز أن يكون البأس استعارة مكنية ويكون الإحساس تخييلًا وأن يكون الإحساس مجازًا عن مطلق الإدراك أي فلما أدركوا ذلك {إِذَا هُمْ مّنْهَا} أي من القرية فمن ابتدائية أو من البأس والتأنيث لأنه في معنى النقمة والبأساء فمن تعليلية وهي على الاحتمالين متعلقة بقوله تعالى: {يَرْكُضُونَ} وإذا فجائية، والجملة جواب لما، وركض من باب قتل بمعنى ضرب الدابة برجله وهو متعد، وقد يرد لازمًا كركض الفرس بمعنى جرى كما قاله أبو زيد ولا عبرة بمن أنكره، والركض هنا كناية عن الهرب أي فإذا هم يهربون مسرعين راكضين دوابهم.
وجوز أن يكون المعنى مشبهين بمن يركض الدواب على أن هناك استعارة تبعية ولا مانع من حمل الكلام على حقيقته على ما قيل: {لاَ تَرْكُضُواْ} أي قيل لهم ذلك، والقائل يحتمل أن يكون ملائكة العذاب أو من كان ثمة من المؤمنين قالوا ذلك على سبيل الهزء بهم، وقال ابن عطية: يحتمل على الرواية السابقة أن يكون القائل من جيش بختنصر وأراد بذلك خدعهم والاستهزاء بهم، وقيل يحتمل أن يكون المراد يجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل على معنى أنهم بلغوا في الركض والفرار من العذاب بعد الاتراف والتنعم بحيث من رآهم قال لا تركضوا {وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} من النعم والتلذذ والاتراف إبطار النعمة وفي ظرفية، وجوز كونها سببية {ومساكنكم} التي كنتم تفتخرون بها {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل أو تسألون عما جرى علكم ونزل بأموالكم ومنازلكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة أو يسألكم حشمكم وعبيدكم فيقولوا لكم بم تأمرون وما ذا ترسمون وكيف نأتي ونذركما كنتم من قبل أو يسألكم الوافدون نوالكم اما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالكم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانو بخلاء فقيل لهم ذلك تهكمًا إلى تهكم، وقيل على الرواية المتقدمة المعنى لعلكم تسألون صلحًا أو جزية أو أمرًا تتفقون مع الملك عليه، وقيل المراد بمساكنهم النار فيكون المراد بارجعوا إلى مساكنكم ادخلوا النار تهكمًا، والمراد بالسؤال السؤال عن الأعمال أو المراد به العذاب على سبيل المجاز المرسل بذكر السبب وإرادة المسبب أي ادخلوا النار كي تسألوا أو تعذبوا على ظلمكم وتكذيبكم بآيات الله تعالى وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى.
{قَالُواْ} لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا استيلاء العذاب {يَا وَيْلَنَا} يا هلاكنا {أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين} بآيات الله تعالى مستوجبين للعذاب، وهذا اعتراف منهم بالظلم واستتباعه للعذاب وندم عليه حين لا ينفعهم ذلك، وقيل على الرواية السالفة إن هذا الندم والاعتراف كان منهم حين أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يالثارات الأنبياء.
{فَمَا زَالَت تِلْكَ} أي فما زالوا يرددون تلك الكلمة، وتسميتها دعوى بمعنى الدعوة فإنه يقال دعا دعوى ودعوة لأن المولول كأنه يدعو الويل قائلًا يا ويل تعال فهذا أوانك.
وجوز الحوفي والزمخشري وأبو البقاء كون {طس تِلْكَ} اسم زال و{دَعْوَاهُمْ} خبرها والعكس، قال أبو حيان: وقد قال ذلك قبلهم الزجاج وأما أصحابنا المتأخرون فعلى أن اسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول فكما لا يجوز في الفاعل والمفعول التقدم والتأخر إذا أوقع ذلك في اللبس لعدم ظهور الإعراب لا يجوز في باب كان ولم ينازع فيه أحد إلا أبو العباس أحمد بن الحاج من نبهاء تلاميذ الشلوبين اهـ.
وقال الفاضل الخفاجي: إن ما ذكره ابن الحاج في كتاب المدخل أنه ليس فيه التباس وأنه من عدم الفرق بين الالتباس وهو أن يفهم منه خلاف المراد والإجمال وهو أن لا يتعين فيه أحد الجانبين. ولأجل هذا جوزه، وما ذكره محل كلام وتدبر. وفي حواشي الفاضل البهلوان على تفسير البيضاوي إن هذا في الفاعل والمفعول وفي المبتدأ والخبر إذا انتفى الإعراب، والقرينة مسلم مصرح به، وأما في باب كان وأخواتها فغير مسلم اهـ.
والظاهر أنه لا فرق بين باب كان وغيرها مما ذكر وإن سلم عدم التصريح لاشتراك ما ذكروه علة للمنع ثم إن ذلك إلى الالتباس أقرب منه إلى الإجمال لاسيما في الآية في رأي فافهم {حتى جعلناهم حَصِيدًا خامدين} أي إلى أن جعلناهم بمنزلة النبات المحصود والنار الخامدة في الهلاك قاله العلامة الثاني في شرح المفتاح ثم قال في ذلك استعارتان بالَكِناية بلفظ واحد وهو ضمير {جعلناهم} حيث شبه بالنبات وبالنار وأفرد بالذكر وأريد به المشبه بهما أعني النبات والنار ادعاءً بقرينة أنه نسب إليه الحصاد الذي هو من خواص النبات والخمود الذي هو من خواص النار، ولا يجعل من باب التشبيه مثل هم صم بكم عمي لأن جمع {خامدين} جمع العقلاء ينافي التشبيه إذ ليس لنا قوم خامدون يعتبر تشبيه أهل القرية بهم إذ الخمود من خواص النار بخلاف الصمم مثلًا فإنه يجعل بمنزلة هم كقوم صم وكذا يعتبر {حَصِيدًا} بمعنى محصودين على استواء الجمع والواحد في فعيل بمعنى مفعول ليلًا ثم {خامدين} نعم يجوز تشبيه هلاك القوم بقطع النبات وخمود النار فيكون استعارة تصريحية تبعية في الوصفين انتهى، وكذا في شرح المفتاح للسيد السند بيد أنه جوز أن يجعل {حَصِيدًا} فقط من باب التشبيه بناءً على ما في الكشاف أي جعلناهم مثل الحصيد كما تقول جعلناهم رمادًا أي مثل الرماد، وجعل غير واحد إفراد الحصيد لهذا التأويل فإن مثلًا لكونه مصدرًا في الأصل يطلق على الواحد وغيره وهو الخبر حقيقة في التشبيه البليغ ويلزم على ذلك صحة الرجال أسد وهو كما ترى، واعترض على قول الشارحين: إذ ليس لنا..إلخ. بأن فيه بحثًا مع أن مدار ما ذكراه من كون {خامدين} لا يحتمل التشبيه جمعه جمع العقلاء المانع من أن يكون صفة للنار حتى لو قيل خامدة كان تشبيهًا، وقد صرح به الشريف في حواشيه لَكِنه محل تردد لأنه لما صح الحمل في التشبيه ادعاء فلم لا يصح جمعه لذلك ولولاه لما صحت الاستعارة أيضًا.
وذهب العلامة الطيبي والفاضل اليمني إلى التشبيه في الموضعين ففي الآية أربعة احتمالات فتدبر جميع ذلك و{خامدين} مع حصيدًا في حيز المفعول الثاني للجعل كجعلته حلوًا حامضًا، والمعنى جعلناهم جامعين للحصاد والخمود أو لمماثلة الحصيد والخامد أو لمماثلة الحصيد والخمود أو جعلناهم هالكين على أتم وجه فلا يرد أن الجعل نصب ثلاثة مفاعيل هنا وهو مما ينصب مفعولين أو هو حال من الضمير المنصوب في {جعلناهم} أو من المستكن في {حَصِيدًا} أو هو صفة لحصيدًا وهو متعدد معنى، واعترض بعضهم بأن كونه صفة له مع كونه تشبيهًا أريد به ما لا يعقل يأباه كونه للعقلاء. اهـ.

.قال القاسمي:

{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي: شرفكم وحديثكم الذي تذكرون به فوق شرف الأشراف: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف: 44]، وقيل: معنى: {ذِكْرُكُمْ} موعظتكم فالذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول. قال أبو السعود: وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه. فإن قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} إنكار توبيخيّ، فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة. ثم أشار تعالى إلى نوع تفصيل لإجمال هلاك المسرفين المتقدم له، بقوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوما آخَرِينَ فَلَمَا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} أي: عذابنا النازل بهم: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} أي: يهربون مسرعين. ثم قيل لهم استهزاءً بلسان الحال أو المقال: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي: من التنعم والتلذذ وفي ظرفية أو سببية: {وَمَسَاكِنِكُمْ} أي: التي كثر فيها إسرافهم: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي: تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل.
{قَالُوا} أي: لما أيقنوا بنزول العذاب: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي: تلك الكلمة وهي: يا ويلنا دعوتهم فلا تختص بوقت الدهشة، بل تدوم عليهم ما أمكنهم النطق: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا} أي: كنبات محصود: {خَامِدِينَ} أي: هالكين بإخماد نار أرواحهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوما آخَرِينَ (11)}.
كم هنا للإخبار بعدد كثير، وهي في محل نصب لأنها مفعول {قصمنا} أي قصمنا كثير من القرى التي كانت ظالمة، وأنشأنا بعدها قوما آخرين. وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينًا في مواضع كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكِنا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا} [الإسراء: 17]، وقوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [الحج: 45] الآية، وقوله: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسرًّا} [الطلاق: 8-9] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَكَمْ قَصَمْنَا} أصل القصم: أفظع الكسر لأنه الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم بالفاء فهو كسر لا يبين تلاؤم الأجزاء بالكلية. والمراد بالقصم في الآية: الإهلاك الشديد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)}.
استئناف جوابٌ عن قولهم {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5] بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون، وتجهيلًا لألبابهم التي لم تُدرك عِظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان.
وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقًّا، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عَمُوا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم} [الأنبياء: 23] كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية.
ولقصد هذا الإيقاظ صُدِّرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل {أنزلنا} بحرف إلى شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور بـ إلى هو المنزّل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظرًا إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم.
وذلك أبلغ من أن يقال: لقد أنزلنا لكم.
وتنكير {كتابًا} للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين: كونه كتاب هدى، وكونه آية ومعجزة للرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مُدَانِيه.
والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح، ويطلق على السمعة والصيت كقوله: {ذكر رحمة ربك عبده زكرياء} [مريم: 2].
وقد أوثر هذا المصدر هنا وجُعل معرفًا بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلامًا موجهًا فيصح قصد المعنيين معًا من كلمة الذكر بأن مجيء القرآن مشتملًا على أعظم الهدى، وهو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم، ومجيئه بلغتهم، وفي قومهم، وبواسطة واحد منهم، سمعةٌ عظيمة لهم كما قال تعالى: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195] وقال: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم} [البقرة: 151].
وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين.
وفي تفسير الطبري هنا قال جماعة: معنى {فيه ذكركم} أنه الشرَف، أي فيه شرفكم.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور، وقد فُسر بمثل ذلك قوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44].
وعلى المعنيين يكون لِتفريع قوله تعالى: {أفلا تعقلون} أحسنُ موقع لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين فإن من جاءه ما به هديه فلم يهتد يُنكَر عليه سوء عقله، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها كما يكون الفضل في مثله مضاعفًا.
وأيضًا فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرففِ التحقيق قال تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} في سورة [العنكبوت: 51]، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوما آخَرِينَ (11)}.
عطف على قوله: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلَكِناها} [الأنبياء: 6] أو على قوله تعالى: {وأهلَكِنا المسرفين}، وهو تعريض بالتهديد.
ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صَدَق رُسُلَه وعْدَه وهو خبر يفيد ابتداءً التنويه بشأن الرسل ونصرَهم وبشأن الذين آمنوا بهم.
وفيه تعريض بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر إهلاك المكذبين له تبعًا لذلك، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصففِ ما حل بهم ليكون ذلك مقصودًا بذاته ابتداءً اهتمامًا به ليَقرع أسماعهم، فهو تعريض بإنذار المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة، وأن الله يُنشىء بعدهم أُمّة مؤمنة كقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} في سورة [إبراهيم: 19].
و كم اسم، له حقّ صدر الكلام لأن أصله اسم استفهام عن العدد، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز لأن الشيء الكثير من شأنه أن يُستفهَم عنه، والتقدير: قصمنا كثيرًا من القرى فـ: كم هنا خبرية. وهي واقعة في محل نصب بفعل {قصمنا}.